صحفيات من اجل المناخ

بعد أربعين عاما من التلوث وعرقلة الملاحة: “الغوارق” تبدأ بمغادرة شط العرب

 

البصرة- نغم مكي

على مسافة أمتار قليلة من الشاطئ، يجلس أبو مرتضى بالقرب من داره يستعيد صور الماضي ويستذكر أصوات بواخر الشحن التجارية التي كانت تعبر المياه. يبدو الرجل سجيناً في الماضي، لا يسحره تحليق النوارس وهي تحط على ضفاف شط العرب ولا منظر أشعة الشمس على صفحات المياه.

يقول إن سنواته السبعين مرت كلمح البصر، اعتاد فيها أن يحاكي شجرة السدر التي تجاوز عمرها المائة عام، يعلم بأن عمرها على وشك النفاذ، وأن مصيرها القلع كتلك الباخرة العملاقة المدعوة “عمورية” التي غرقت محملة بالنفط إذ بدأ تقطيعها إلى أجزاء اليوم تمهيدا لإخراجها.

تتغير نبرة صوته فجأة وهو يتحدث عن فترة ما قبل الحرب العراقية – الايرانية أوج ازدهار البواخر التجارية العابرة لشط العرب، تلك التي كانت تصل يومياً إلى قضاء أبو الخصيب أقصى جنوبي العراق، ويقدر عددها بحوالي العشرين باخرة، تحمل البضائع إلى الميناء ثم ينقلها عمال الشحن لاحقاً إلى محافظة بغداد.

وقتها كان أبو مرتضى لا يزال شاباً يعمل في النجارة في معمل الادارة المحلية في المحافظة. كان يقف على ضفة الشاطئ يستنشق الهواء العليل ويمتع نظره بنقاوة المياه المليئة بالأسماك.

غير أن “الحروب دمرت كل شيء” يقول الرجل بحسرة، فالقنابل أغرقت البواخر وجعلت منها خردةً تزن مئات الأطنان مهملةً ومرميةً في شط العرب تلوث المياه بما تسربه من وقود ما تتسبب في هلاك للبيئة الحيوية.

أما اليوم، عندما بدأت الحكومة العراقية بتقطيع الغوارق إلى أجزاء بهدف التخلص منها، اختلط الماء برائحة الوقود الثقيل الناتج عن عملية التقطيع.

قطع النار الصغيرة التي تسقط على الوقود المتجمد في الباخرة تسبب انبعاث دخان “يلوث الهواء”، يوضح ابو مرتضى بينما يمسح عيونه المحمرة جراء الدخان قائلاً، “لم أعد أشم أي شيء فقد تعودت من زمن طويل على استنشاق هذه الروائح الخانقة، ولولا حساسية عيناي لما أدركت الواقع”.

الشركة العامة لموانئ العراق أعلنت في الثاني من آذار الماضي عن استمرارها برفع الغوارق والمخلفات البحرية من مياه شط العرب والقنوات الملاحية، لتأمين حركة السفن والقطع البحرية فيه.

مدير عام الشركة الدكتور المهندس فرحان الفرطوسي، يقول إن الهدف من وراء التخلص من هذه الغوارق هو “توفير مناخ آمن لحركة السفن والزوارق وإظهار جمالية شط العرب” ويضيف إن “قسم الإنقاذ البحري يقوم بالكشف على مياه شط العرب وإفراغه من الغوارق المتراكمة والمخلفات البحرية كافة”.

حسين الزيادي خبير الجغرافية والدراسات التنموية في جامعة ذي قار، يؤكد أن “الغوارق تؤثر على البيئة تأثيراً متنامياً، ويمكن اعتبارها من أهم أسباب التلوث البيئي بما تحمله من مواد كيماوية ومن نفط خام”.

ويضيف “الغوارق تتحول بعد اسابيع الى حديد غائر في الاعماق، لكن تأثيرات ما تسرب منها سوف يبقى مدة أطول خصوصاً أن عملية المد والجزر في شط العرب تساهم في نشر التلوث وتركيزه في أماكن محددة”.

ويشهد شط العرب منذ سنوات تدهوراً بيئياً وفق تقارير محلية ودولية، إذ سجلت مياهه معدلات ملوحة غير مسبوقة فتعدى اللسان الملحي منطقة الهارثة ويتجه شمالًا بسبب ضعف الإطلاقات المائية من دول الجوار الجغرافي.

وتوضح التقارير أن حوالي 65 بالمئة من شط العرب في البصرة أصبح مالحاً وما تبقى من مياهه غير صالح للاستخدام البشري والحيواني.

وتبلغ نسبة التراكيز الملحية في الهارثة شمال شرق محافظة البصرة حوالي (4500)  على مقياس (TDS) في حين ان الحد المسموح به هو اقل من (1000) على المقياس ذاته. وتقع مدينة الهارثة على الضفة الشرقية لنهر الفرات، ويحدها من الشمال قضاء القرنة وجنوباً مركز محافظة البصرة، وهي تبعد عن البحر مسافة (130) كيلو مترا.

وبسبب زيادة الملوحة وتراجع مناسيب مياه دجلة والفرات وارتفاع نسبة الملوثات اختفى العديد من أنواع أسماك من شط العرب أو قل عددها بشكل ملحوظ ومنها سمك الكارب والكطان.

يشير أبو مرتضى بيده نحو إحدى الغوارق أمام ناظريه قائلاً “ها هم العمال يقتطعون الأجزاء العلوية من السفينة ويتبقى منها الجزء السفلي فلم يستطيعوا أن يرفعوها لركودها في المياه لسنين ولثقل وزنها وهي مشكلة أخرى ستحتاج الى حلول”.

في حين يبين مدير قسم الإنقاذ البحري ورئيس المهندسين البحريين الأقدم ماجد غازي شلش، أن “ملاكات قسمنا افرغت جنيبة محملة بغوارق في مكان ايواء الغوارق، والعمل مستمر على الرافعة لانتشال غارق عملاق يزن 85 طنا”، وأضاف “العمل جارٍ على تقطيع ذلك الغارق لتسهيل عملية نقله الى منطقة إيواء الغوارق في ميناء المعقل”.

ويجمع خبراء بيئيون ان تنظيف شط العرب من الملوثات الناتجة عن الغوارق تحتاج الى تعاون دولي مع العراق لأنه لا يملك المعدات اللازمة لرفع الغوارق العملاقة من قعر الشط، لذلك يقترحون ان يطلب العراق مساعدة دولية لانتشالها بالكامل من مكانها وتنظيف شط العرب من الملوثات.

يأمل أبو مرتضى أن تستمر حملة ازاحة الغوارق العالقة في المياه وتنظيف الشط، قائلاً: “قد نحتاج أربعين عاماً اخرى بعد إزالة الغوارق لإعادة شط العرب إلى ما كان عليه.. لكن المهم أننا بدأنا”.

 

أنجزت هذه المادة من قبل شبكة صحفيات من اجل المناخ بدعم من منظمة (USID)  

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى